حتى في ذروة التحركات الاولى وسط بيروت، كان لافتاً أن الرئيس سعد الحريري لم يتصرف بقلق جدي إزاء «ربيع بيروت». وما يجب التنويه به، بداية، أنه «ربيع منظمات المجتمع المدني» حصراً. الحريري لم يرَ مشكلة في نقد الوزير نهاد المشنوق، لأن محض مصادفة كونه وزيراً للداخلية. أما وزير البيئة محمد المشنوق، فالتعرض له «لا يتطلب دق النفير الطائفي»، فيما شتم تيار المستقبل ليس أمراً جديداً. ولدى الحريري «ضمانات بأن الشباب (المجتمع المدني... ما غيرو) لن يذهبوا بعيداً في الاحتجاجات».
لكن ما لم يقله الحريري، أو ربما ما لا يجيد التعبير عنه، قاله قياديون بارزون في كتلته وحزبه. هؤلاء انتظروا أياماً قليلة حتى «تنفسوا الصعداء» لأن «البيارتة ليسوا مشاركين في الاحتجاجات». طبعاً، كانت الجهات الامنية الرسمية والصديقة تقوم بإحصاء طائفي ومناطقي وسياسي للمشاركين في الاحتجاجات. والنتيجة التي خلصت اليها جعلت الحريري وفريقه في حالة طمأنينة، إذ تبيّن:
ــ أن المشاركة السنية في التحركات ضئيلة جداً، وتقتصر على «متمردين»، إما من «أنصار الطرف الآخر»، أو ممن لم يتفقوا مع الحريري منذ بداية التسعينيات، أو من متضررين من مشاريع معينة في بيروت. وكان منسّقو التيار يراقبون، بقلق، حجم المشاركة المباشرة من مناطق رأس بيروت أو الطريق الجديدة.
ـ أن غالبية شيعية ــ مسيحية تسيطر على المشهد الاحتجاجي، وأن الدروز لم يحضروا إلا بصفات فردية أو حزبية. وبالتالي، فإن هذا «التحليل» يتيح القول، سريعاً، إن من يتحركون على الارض ليسوا من القواعد الشعبية التي تجعل الحريري، أو غيره من القيادات الكبرى في البلاد، تتصرف بذعر.
ــــ أن الصراع السريع على مآلات الحراك، والانقسام السياسي وغير السياسي بين القائمين به أو المشاركين فيه، جعلا السلطة مجتمعة، والحريري على وجه الخصوص، غير قلق من حصول انزياحات جدية في القواعد الشعبية لفريقه أو لفريق 14 آذار، إذ إن من شاركوا في الاحتجاجات من مناصري 14 آذار، إنما هم من فئة الايتام التي لا تشملها حتى الصدقة.
ــ أن ردود الفعل الهامسة التي برزت في «بيوتات البيارتة»، وغذّتها ماكينة المستقبل بقوة، تركزت على «خشية» من كون «زعران الارياف الذين لا يزالون يحتلون بيروت، يهدفون من وراء التحركات الى تدمير العاصمة، وهدم كل ما بناه رفيق الحريري». وقد جهد فؤاد السنيورة، ولا يزال، محاولاً إقناع الجمهور بأن كل مطلب يحققه الحراك إنما هو خسارة لفريقه. لكن السنيورة وغيره لا يهتمون لأحد إن قالوا: إن ما يريده المحتجون هدفه تغيير قواعد اللعبة على حساب السنّة.
ــ أن التحركات التي جرت في المناطق ــ مع أنها أربكت القيادات التقليدية للمستقبل، من نواب ورؤساء بلديات ومفاتيح، وجعلت القيادات الدينية، السلفية منها وغير السلفية، في إجازة إلزامية ــ لم تشهد توسعاً من النوع المثير للقلق، مع العلم بأن في فريق الحريري من وجد نفسه مضطراً إلى التعامل مع فعاليات أخرى بدت مستفيدة من الاحتجاجات. حتى بدا كأن الحصيلة الاولى لتحرك عكار كانت في عروض قدمها الوزير المشنوق للنائب السابق وجيه البعريني، القيادي العكاري الحليف لحزب الله!
الحصيلة بالنسبة إلى فريق الحريري هي تعادل سلبي: لم يتمكن من الاستفادة من التحرك عبر إقحام حزب الله في كادر المسؤولين عن فساد لبنان، وفي المقابل لم يحقق الحراك أي هزة فعلية أو عملية استقطاب لقيادات أو كوادر أو جمهور لصيق بالتيار. وهذا، في حدّ ذاته، يمثل لفريق الحريري عامل اطمئنان. وبالطبع، قد لا يكون كل هذا الموضوع محل اهتمام، لا عند جماعات المجتمع المدني (ما غيرو) ولا حتى عند الآخرين من الاكثر موثوقية في قيادة الحراك.
لماذا هذا السرد؟
الامر يتعلّق، عملياً، بالعودة الى أصل الموضوع. الى الحراك الذي يمكن أن ينتح تغييراً حقيقياً. لأن «ناشطي المجتمع المدني» لا يهتمون لغير ما اقتنعوا به، أو التزموا به، أو أطلقوا وعوداً بشأنه، وساعتها تكون النتيجة: لقد فشل المتمردون على الاحزاب في إنتاج بديل حقيقي من هذه الاحزاب. وما إصرار ناشطين أساسيين على عدم الاهتمام بتوسيع القواسم المشتركة، إلا دليل على «ألعاب الولدنة». كذلك فإن ردود الفعل التي برزت في اليومين الماضيين، رداً على تحرّكي «خليج الزيتونة» و»دالية الروشة»، ليست إلا المؤشر الاكثر وضوحاً، لأن المعترضين لا يجدون في سوليدير هدفاً محرزاً، ولا في الاستيلاء على الاملاك البحرية عنواناً جذاباً. والسبب، ببساطة شديدة، أن هؤلاء هم أبطال «الثورة المتلفزة» ممن ينتهي بهم الامر على طريقة «بليز كلبجني» أو «بليز اغتصبني» أو «منك زلمي؟... اضربني». وهو أمر لا يطال فقط «مراهقي الحراك»، بل يشمل «إعلاميي الربيع المتأخر» ممن «صدمتهم إجراءات إطفاء أجهزة التبريد في مقر وزارة البيئة»، وانعكاس ذلك على حيوية الناشطين!
لكن الجانب الثاني، الأكثر خطورة، هو في الطبيعة الثقافية والنظرة الطبقية التي تسيطر على عقول بعض من لن يشغلهم شيء عن معركة نزع سلاح المقاومة في لبنان، وإسقاط بشار الاسد في سوريا، وتدمير نظام الملالي في إيران، وإزالة الخطر عن الحرمين الشريفين في اليمن. هؤلاء ليس لديهم أصلاً ما يخجلون به. العلاقة بالادارة الاميركية، وتلقّي التمويل من حكومتها، والعمل في مؤسسات تتبع لآل سعود وأمراء القهر في دول خليجية، أمور عادية. وليس مستبعداً أن يخرج من بينهم من يدعو غداً الى «حراك» لحماية حق «أنطوان لحد بالرقود تحت أرض ضيعته في الشوف». وللأمانة، فإن هؤلاء، من اليوم الاول حتى الآن، لم يهز الحراك مواقعهم الحالية. وهم أصلاً ليسوا في وارد المراجعة، بمن في ذلك منظّرو ومثقّفو ربيع الـ2005، الذين لم يكتفوا بفشل مشاريعهم التي تلت وقف الحرب الاهلية، ومن ثم فشل مشاريعهم في بناء وحدة نقد علمية وعادلة، ثم فشلوا في انتزاع مقاعد يوم الحصاد بعد مقتل رفيق الحريري، ثم فشلوا في بناء مناخ حقيقي «يؤازر الثورة السورية المجيدة»، بل هم ينظرون الى ما يجري اليوم في الشارع على أنه من «المحصول الرجعي» لزرعهم. هكذا، نزلوا الى وسط بيروت الذي يعرفونه جيداً، ورفعوا اللافتات، وكتبوا المقالات، وألقو الخطب والتصريحات، لكن أن يفكر أحدهم، ولو لربع ساعة، بالاستقالة من «وظيفة المناضل ــ القائد»، فهذا من سابع المستحيلات!
يعني، نحن أمام ثورة تحصل وفق مقاييس الواقع اللبناني:
ــ لا محاسبة علمية للفساد، لأن ذلك يزيد الانقسام السياسي والطائفي.
ــ لا دعوة إلى تغيير السلطة، لأن ذلك يزيد الانقسام السياسي والطائفي.
ــ لا دعوة إلى حراك مطلبي شامل، لأن ذلك يستفزّ كل الناس ويزيد أيضاً من الانقسام السياسي والطائفي.
وقمح...